المثالية: في ظل سرعة تقدم التفكير الفلسفي

مادلين غراويتز

ترجمة محمد الطيب قويدري

المثالية.

لأن العالم الخارجي يفرض نفسه على الجميع بوصفه حتمية، فقد كان على الفلسفة لدى بداياتها في الأقل ان تعترف بتفوق الموضوع، وتوجه نفسها نحو تأويل مادي. لكن وبالضبط فإن بداهة وأهمية ظواهر الطبيعة، أجبرتها على طرح أسئلة: من أجل تفسير ما هو واقع، ابتكر الإنسان ما فوق الطبيعي. فالعقول، إن لم نقل العقل هي في البداية أقوى من المادة التي تقودها، فوُلِد الدين قبل العلم.

وسيركز التقدم الأكثر سرعة للتفكير الفلسفي على مجال الذات العارفة: الإدراك فيما يخص العالم المحسوس، والمنطق فيما يخص الفكر. والذات المفكرة هي بالنسبة لذاتها أكثر بداهة من الموضوع المفكر فيه.

6. – المؤلفون. – الاتجاه المثالي يجمع بين العديد من العقائد الفلسفية، سنكتفي هنا بتبيين ما هو مشترك بينها، والتذكير ببعض أسماء المؤلفين الأكثر أهمية. منذ العصور القديمة (أفلاطون، أرسطو) اعترفت المثالية بأولية العقل على العالم.

«ماذا تمثل الأشياء غير أشياء مدركة من قبل حواسنا؟ إذن، ما الذي ندركه نحن غير أفكارنا، وإحساساتنا؟ وببساطة أليس من السخف الاعتقاد أن توليفات الأفكار والأحاسيس يمكنها أن توجد دون تكون محل إدراك» كتب بيركلي (1685-1753)[1]. وكما سنرى، فإن ديكارت كان موزعا بين المادية اللازمة لخلق العلم، والمثالية الضرورية للمحافظة على الدين وعلى أمان مبادئ الفكر. ليبنيتز (1596-1650) من جهته يتخلص من ذلك بعبارة ساخرة: «لا شيء في الفهم لا يأتي من الحواس… إلا إذا كان الفهم نفسه[2].» وأخيرا بالنسبة لكانط (1724-1804) فإن عقلنا العاجز عن الخروج من نفسه لا يجد في الأشياء إلا ما وضع هو فيها.

وبعد أن قَبِلَ كانط عالم التجربة: أي الظواهر، لجأ إلى المثالية الأشد إطلاقا، مثالية الحقائق الأبدية “النومينية” [النومن مقابل للظاهرة: وهو ما لا يمكن معرفته(سلبي)، أوما دل على إحدى مسلمات العقل العملي (إيجابي)كالحرية، إلخ]. وتميز هيغل (1770-1831) بمثالية موضوعية، أي مثالية تعطي لوسائل معرفتنا قيمة معينة.  إن العالم الواقعي هو عبارة عن بعث “فكرة” يتوصل إليها العقل الإنساني بوساطة ” وعي حقيقي”. أكثر قربا منا هناك برغسون (1859-1941) الذي يؤكد أن العالم ليس سوى مجموع من الصور. «نحن لسنا واثقين فورا سوى من الفكرة، سواء أتعلق الأمر بفكرة الفكر أم بفكرة الأشياء الجسدية [3]

أخيرا برونشفيغ (1869-1944): «أعتقد أنني ألمس وأرى ما يحيط بي، في الواقع، البيت الذي أقول إنه أمامي، لا يقدم نفسه إليَّ بطريقة مختلفة عما تفعله في هذه اللحظة بالذات، البِركةُ التي أتذكر أنني عبرتها العام المنصرم، إنني لا أمسك بالعالم بطريقة مباشرة… لأنني لا أستطيع أن أخرج من نفسي دون أن أكف عن أن أكون أنا، العالم المعروف يوجد فيّ أنا[4]

في الواقع، كما كتب لوفيفر، فإن المثالية تنغلق على الأنا، «إنها تحمل إلى المطلق، تجربة صغيرة مريبة جدا هي: الوعي الذاتي الخالص». مع ذلك فإن المثاليين ساهموا من خلال الأهمية التي منحوها للفكر أكثر من الماديين في التقدم الذي عرفته المعرفة، واصطنعوا الوسائل والمفهومات الأكثر نفاذا من أجل تحليلها.


[1] محاورة هيلاس وفيليناوس1، ص8، في (13ب.4) ص.34.

[2] مقالات جديدة 2، 1. ثانيا.2 في (13ب.4).

[3] مذكور في (13ب.4) ص 33.

[4] (6) ص.5.

Exit mobile version