هل المدرسة المصرية لترتيل القرآن وتجويده قادرة على أن تتطور من جديد؟: مع المحافظة على مساهمتها التاريخية في توريث القرآن للأجيال؟
هل المدرسة المصرية لترتيل القرآن وتجويده قادرة على أن تتطور من جديد؟
لطالما اعتبر العالم مصر مهدا للحضارات من قديم، وما دورها في توليد عناصر الازدهار لعلوم القرآن وفنون العناية به ترتيلا وتجويدا إلا برهان من البراهين الكثيرة على مساهمة مجتمعها التاريخية في انتشار الدين الإسلامي.
أما المدرسة المصرية للتلاوة فيكفي أنها قد أبدعت في تقديم صورة كتاب الله إلى البشرية، ولطالما أجادت في توريث خدمة القرآن العظيم الفنية للأجيال؟
لطالما قيل إن “القرآن نزل في مكة، وقُرئ في مصر”. هذه العبارة التاريخية تختزل مكانة مصر الفريدة في عالم التلاوة والتجويد. لقد شكلت المدرسة المصرية على مدى عقود مضت معلمًا بارزًا في حفظ وتوريث فن تلاوة القرآن الكريم، مستندة إلى أركان ثلاثة: حلاوة الصوت، وإتقان الأداء، والتمكن العلمي من أحكام التجويد.
واليوم، وفي ظل متغيرات العصر، وتعدد الوسائط، وبروز مدارس قرآنية جديدة، تبرز تساؤلات مصيرية حول قدرة هذه المدرسة العريقة على التطور مع الحفاظ على جوهرها، واستمرارها في أداء دورها التاريخي في توريث القرآن للأجيال. فهل تستطيع المدرسة المصرية أن تجدد نفسها؟ هذا ما سنحاول استكشافه في هذا المقال.
محتويات المقالة
- المدرسة المصرية لتلاوة وتجويد القرآن
- تاريخ التلاوة والتجويد في مصر عبر العصور
- هل للمذاهب الفقهية دور وتأثير واضحين في ازدهار التلاوة والتجويد في مصر؟
- من هم أبرز عمالقة القراء وما هي سمات اتجاهاتهم البارزة، وتلاميذهم؟
- ما دور الأزهر في هذه الصناعة الفنية البارزة؟ وما هي مساهمة المجتمع فيها في المدن والأرياف؟
- هل هناك عناصر أثرت من خارج الأزهر في الاتجاهات الفنية و في مقامات السماع؟
- ما مستقبل هذه المدرسة الرصينة؟ وما هو وضعها اليوم؟
المدرسة المصرية لتلاوة وتجويد القرآن في مصر
المدرسة المصرية للتلاوة ليست مجرد مناهج تعليمية، بل هي هوية فنية وتراث روحي متكامل. لقد نجحت هذه المدرسة في تحقيق معادلة فريدة بين الالتزام بأحكام التجويد وبين الجمالية الصوتية التي تصل بالمستمع إلى حالة من “النشوة القرآنية”، كما وصفها شيخ مشايخ كردستان في كتابه “أفضل قراء القرآن”. تتميز المدرسة المصرية بخصائص فنية فريدة، تجعل منها مدرسة متفردة على مستوى العالم الإسلامي، فهي تجمع بين الدقة العلمية في نطق الحروف، وتطبيق أحكام التجويد من إدغام وإظهار وتنوين ومد، والبراعة في الأداء الصوتي الذي يحترم المقامات الموسيقية العربية الأصيلة، وينتقل بينها بسلاسة واقتدار.
تاريخ التلاوة والتجويد في مصر عبر العصور
ارتبط تاريخ التلاوة في مصر بشكل وثيق بالإذاعة المصرية منذ تأسيسها عام 1937م، حيث بصوت الشيخ محمد رفعت علت أولى آيات القرآن التي سمعت عبر الأثير. ومنذ تلك اللحظة، بدأت مرحلة التأسيس الذهبية التي قادها عمالقة القراء، فوضعوا قواعد فنية صارمة لبناء التلاوة، أصبحت بمثابة منهج ملزم لكل من يريد أن يصبح قارئًا معتمدًا بالإذاعة.
في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، رسّخ الشيخ مصطفى إسماعيل قواعد ترتيب المقامات في التلاوة، حيث يبدأ القارئ بمقام “البياتي”، ثم ينتقل إلى “الصبا” أو “الحجاز”، فـ”النهاوند”، ثم “الراست” أو “السيكاه”، ثم “العجم” أو “الجهاركاه”، ليعود في النهاية إلى “البياتي” للختام. هذا البناء المتماسك منح التلاوة المصرية هوية مستقلة، وجعلها تتدرج من نسيم هادئ إلى ذروة قوية تلامس المشاعر، وتصل بالقلوب إلى الخشوع.
هل للمذاهب دور وتأثير واضحين في ازدهار التلاوة والتجويد في مصر
لم يكن ازدهار التلاوة في مصر حكرًا على مذهب فقهي معين، بل كان نتاجًا لظاهرة مجتمعية أوسع. لقد أصبحت المقارئ المصرية جزءًا لا يتجزأ من التراث المصري والشعب المصري بأسره. لقد تفاعل المصريون مع القرآن كـعادات محببة إلى النفس، تتوهج بشكل خاص في شهر رمضان الكريم. هذا التفاعل المجتمعي العابر للمذاهب هو الذي خلق البيئة الخصبة لازدهار فن التلاوة، وأتاح للقراء الموهوبين من مختلف المناطق والانتماءات أن يبرزوا ويبدعوا.
من هم أبرز عمالقة القراء وما هي سمات اتجاهاتهم البارزة، وتلاميذهم
لقد أنجبت المدرسة المصرية عددًا لا يحصى من القراء العظام، لكن يمكننا أن نذكر بعضًا من أبرز هؤلاء الذين تركوا بصمة لا تُمحى:
الشيخ محمد رفعت
يعد رأس المدرسة المصرية في التلاوة, وكان أول من افتتح الإذاعة المصرية بتلاوة قرآنية في 31 مايو 1937م. عرف بلقب “قيثارة السماء” و”الصوت الذهبي” و”الصوت الملائكي”. تميز صوته بالخشوع والقوة، وكانت تلاوته تتسم بالوقار والعذوبة.
الشيخ مصطفى إسماعيل
يعتبر من أهم المعالم البارزة في تاريخ التلاوة، حيث رسخ قواعد الانتقال بين المقامات، ووضع قاعدة “إشباع المقام والوصول إلى جوابه قبل الانتقال إلى غيره”. تميز بأدائه القوي، وصوته الجهوري، وقدرته الفائقة على التحكم في النَفَس.
الشيخ محمود خليل الحصري
اشتهر بدقة أدائه وأحكامه، فكانت قراءته متشابهة في الدقة كالوحي المنزل. خلف تراثًا ضخمًا من التسجيلات المسموعة، including المصحف المرتل بروايات مختلفة، كما ترك العديد من المؤلفات في أحكام التجويد والتلاوة.
الشيخ عبد الباسط عبد الصمد
يوصف بأنه علامة مضيئة وشمس ساطعة في سماء تلاوة القرآن، كان موهبة فائقة وصاحب “حنجرة ذهبية” أطربت وجدان العالم بأسره. عين قارئًا لمسجد الإمام الشافعي ثم لمسجد الإمام الحسين، وكان أول نقيب لنقابة المقرئين.
جدول يوضح أبرز عمالقة القراء وسماتهم المميزة
| اسم القارئ | الفترة الزمنية | أبرز السمات الفنية | الإسهامات البارزة |
|---|---|---|---|
| الشيخ محمد رفعت | 1882 – 1950 | صوت ملائكي، وقار، عذب | أول قارئ يفتتح الإذاعة المصرية، وضع الأساس للمدرسة المصرية |
| الشيخ مصطفى إسماعيل | 1905 – 1978 | صوت جهوري، قدرة فائقة على التحكم في النَفَس | ترسيخ قواعد الانتقال بين المقامات، وإشباع المقام |
| الشيخ محمود خليل الحصري | 1917 – 1980 | دقة في الأحكام، تجويد متقن | تسجيل المصحف المرتل بعدة روايات، تأليف كتب في التجويد |
| الشيخ عبد الباسط عبد الصمد | 1927 – 1988 | حنجرة ذهبية، أداء شجي | نشر التلاوة المصرية عالميًا، أول نقيب لنقابة المقرئين |
| الشيخ محمود علي البنا | 1926 – 1985 | صوت جميل، أداء مؤثر | قارئ جمعية الشبان المسلمين، تسجيلات قرآنية عديدة |
ما دور الأزهر في هذه الصناعة الفنية البارزة؟ وما هي مساهمة المجتمع فيها في المدن والأرياف؟
يمثل الأزهر الشريف حارسًا أمينًا على المدرسة المصرية في التلاوة، وهو الذي حافظ على هذا الإرث عبر العصور. وفي خطوة بالغة الأهمية لتجديد وإحياء هذا التراث، أعلن الأزهر في مارس 2025 عن تدشين مشروع “مدرسة التلاوة المصرية” بالجامع الأزهر. هذا المشروع العملاق يهدف إلى اكتشاف الأصوات الموهوبة من أبناء الأزهر والمصريين عامة، وتعزيز الهوية المصرية من خلال إعداد قراء متمكنين في التلاوة والأداء وفقًا للمدارس المصرية العريقة.
أكد الدكتور محمد الضويني، وكيل الأزهر، أن هذا المشروع يأتي تأكيدًا على دور الأزهر في تعزيز الثقافة القرآنية، مشيرًا إلى أهميته في “تكوين جيل من القراء المتقنين الذين يحملون رسالة التلاوة الصحيحة، ويعززون الهوية الثقافية المصرية”. كما أوضح الدكتور عبد المنعم فؤاد، المشرف العام على الأروقة الأزهرية، أن المشروع يجمع بين الأصالة والمعاصرة، من خلال تعزيز الفهم الصحيح للتلاوة واستحضار عراقة المدارس المصرية القديمة.
أما على مستوى المجتمع، فقد انتشرت فروع رواق القرآن الكريم التابعة للأزهر في جميع محافظات الجمهورية، حيث بلغ عددها 1250 فرعًا. وقد استفاد من هذه الفروع أكثر من 5400 معلم ومحفظ للقرآن الكريم من خلال 5 دورات تدريبية عقدها الجامع الأزهر. هذا الانتشار الواسع يؤكد أن المجتمع المصري في المدن والأرياف ما يزال خزانًا لا ينضب للموهوبين في تلاوة القرآن وحفظه.
هل هناك عناصر أثرت من خارج الأزهر في الاتجاهات الفنية والمقامات؟
لم يكن الأزهر هو المؤثر الوحيد في تشكيل اتجاهات المدرسة المصرية، فقد لعبت الإذاعة المصرية دورًا محوريًا في صياغة الذوق الفني للتلاوة من خلال لجان قبول القراء الصارمة. كانت هذه اللجنة تضم الشاعر محمود حسن إسماعيل، والملحن محمد حسن الشجاعي الذي كان “صارمًا بشدة” في تقييم القراء.
لم تقبل الإذاعة آنذاك عددًا من أصحاب الأصوات الجميلة مثل الشيخ نصر الدين طوبار والسيد النقشبندي، كما احتاج الشيخ محمد محمود الطبلاوي إلى 10 سنوات حتى يُقبل في الإذاعة. هذا الصرامة في الاختيار حفظت للمدرسة المصرية هيبتها وجدارتها الفنية.
في الثمانينيات، ومع انتشار كاسيتات القرآن، بدأ بعض القراء الجدد بمخالفة قواعد المدرسة المصرية، بالتنقل السريع بين المقامات، أو عدم التنويع فيها بالشكل الكافي. ثم جاء عصر الفضائيات ليبرز قراء جددا من مدارس أخرى، مثل الشيخ محمد أيوب وآخرون من عديد البلدان العربية والإسلامية، مما وسع من دائرة التنوع الصوتي والأدائي، لكنه في الوقت نفسه طرح تحديًا جديدًا أمام المدرسة المصرية التقليدية.
ما مستقبل هذه المدرسة، وما هو وضعها اليوم؟
يواجه مستقبل المدرسة المصرية تحديات حقيقية، لكن المبادرات مثل “مدرسة التلاوة المصرية” بالجامع الأزهر تمثل إشارة قوية على القدرة على التطور والتجديد. إن عودة الأزهر لقيادة هذه العملية يحمل في طياته وعودًا كبيرة بالحفاظ على الأصالة مع مواكبة العصر.
التحديات التي تواجه المدرسة المصرية اليوم متعددة، منها:
- ظهور مدارس قرآنية جديدة تختلف في أسلوبها عن النمط المصري التقليدي
- قلة عدد القراء الكبار الذين يجمعون بين الإتقان العلمي والموهبة الصوتية الفذة
- تأثير الوسائط الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل ذوق جديد قد يبتعد عن القواعد المعهودة
إلا أن الفرص المتاحة أيضًا كبيرة ومؤثرة، وأهمها:
- المشاريع المؤسسية التي يقودها الأزهر لاكتشاف الموهوبين وتدريبهم
- الإقبال المتزايد على حفظ القرآن في مصر والعالم الإسلامي
- التراث الهائل من التسجيلات الصوتية للقراء الكبار الذي أصبح متاحًا بشكل أوسع
إن مستقبل المدرسة المصرية مرهون بقدرتها على الموازنة بين التمسك بالأصول الفنية والعلمية الراسخة، وبين تبني أساليب جديدة في التعليم والتدريب تناسب الأجيال الجديدة. كما أن نجاحها في استيعاب المواهب الشابة، وتدريبهم على أيدي متخصصين، سيكون المفتاح لاستمرارها كمنارة للعالم الإسلامي في تلاوة القرآن الكريم.
خاتمة
إن المدرسة المصرية لتلاوة القرآن أمام منعطف تاريخي، فهي ليست مجرد تراث فني ينتمي للماضي، بل هي كائن حي قادر على النمو والتجدد. لقد أثبتت عبر تاريخها الطويل قدرة على استيعاب المتغيرات، والاستفادة من الوسائل الحديثة، مع الحفاظ على جوهرها وهويتها.
مشروع “مدرسة التلاوة المصرية” الذي أطلقه الأزهر يمثل استجابة واعية لهذه التحديات، وهو يؤسس لمرحلة جديدة من الاهتمام المؤسسي والمنهجي بهذا التراث العظيم.
إن تطور المدرسة المصرية مع المحافظة على دورها التاريخي في توريث القرآن للأجيال ليس ممكنًا فحسب، بل هو واقع يتحقق، شرط أن يستمر هذا الاهتمام، وتتوافر الإرادة والعزيمة للحفاظ على هذه المدرسة التي أطربت العالم بصوت القرآن الكريم.
ما رأيكم في مستقبل المدرسة المصرية لتلاوة القرآن؟ وهل لديكم تجارب مع القراء المصرين أو آراء حول تطور أسلوب التلاوة اليوم؟ شاركونا تعليقاتكم وتفاعلكم، ولا تنسوا نشر المقال إذا كان مما أفادكم.











