مجالات جديدة

نور الوعي وانبعاث ضوء من التفكير

النور الداخلي: من الاستنارة الفكرية إلى عصر التنوير

تتخلل استعارة “النور” لغتنا وخيالنا عند وصف نشاط الفكر والوعي، فهي تفرض نفسها كبديهة: نرى الحل فجأة، “تستنير” فكرتنا، “ينير” الشرح عقولنا. هذا التضاد القوي بين النور والظلام يتجاوز الثقافات والعصور ليرمز إلى الصراع الجوهري بين الفهم والجهل، الوضوح والارتباك، الوعي والعمى. لكن هذه الصورة الثرية تخفي في الواقع بُعدين مفاهيميين متمايزين وإن كانا متشابكين: نور الوعي الفردي وضوء حركة التنوير الجماعية.

١. النور الداخلي: استنارة العقل واستيقاظ الوعي

في جذورها الأساسية، تمثل “الاستنارة” التجربة الذاتية للفهم ذاتها. إنها اللحظة التي يتبدد فيها ضباب الأفكار، حيث تتجمع عناصر المشكلة فجأة في صورة متماسكة. هذا النور هو نور الوضوح المعرفي:

  • في مواجهة ظلام الجهل: يقف نقيضاً مباشراً للظلام، ذلك الرمز الكوني للمجهول، غير المفهوم، المخيف أو المشوش. الخروج من “ظلمات الجهل” يعني اكتساب المعرفة وصقل الحكم.
  • الوعي والإدراك: هذا النور هو أيضاً نور الصحوة الداخلية. إنها “النباهة” التي ترافق إدراك الذات (وجود المرء، مشاعره، دوافعه) وإدراك العالم (تعقيده، ظلمه، جماله). هي لحظة “فتح العينين” على حقيقة لم يكن يراها من قبل، غالباً عبر التجربة أو التأمل.
    • مثال: عندما يقول الشاعر عمر الخيام: “أطَلِّعُ ما حَوَتْ كِتابَةُ رَبِّي… وَأَسْتَخْرِجُ الأَسرارَ مِنْ طَيَّ كِتْبِه”، فهو يعبّر عن ذلك التوق لاستنارة تُزيح ظلام الأسرار.
  • ظاهرة ذاتية كونية: رغم كونها تجربة شخصية عميقة، فإن السعي نحو هذا “النور” الداخلي هو محرك كوني للوجود البشري، يُطلب عبر التعليم، التأمل، الفن، العلم، وأي شكل من أشكال الاستكشاف الفكري أو الروحي يهدف إلى تبديد مناطق الظل في وجودنا.
    • اقتباس: يُذكرنا قول الإمام علي بن أبي طالب: “نور القلب نور البصيرة” بالارتباط الجوهري بين استنارة القلب (الوعي) وإبصار الحقائق.

٢. نور التنوير: المشروع الفلسفي الجماعي

في القرن الثامن عشر، أخذت هذه الاستعارة الفردية بُعداً تاريخياً وجماعياً هائلاً مع حركة التنوير (Les Lumières). صرّح فلاسفة مثل فولتير، وديدرو، وروسو، ومونتسكيو، وكانط وغيرهم صراحةً بأن النور هو شعار كفاحهم الفكري:

  • نور العقل ضد ظلام الخرافة والسلطة التعسفية: نادوا بـالعقل كمصدر أعلى للنور، قادر على تبديد “ظلمات” التعصب الديني، والأحكام المسبقة المتوارثة، والطغيان السياسي، والعقائد غير المُساءَلَة. هدفهم كان “تنوير” العقول.
    • اقتباس: يعرّف إيمانويل كانط التنوير في مقاله الشهير: “التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه… قصوره هذا سببه عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر.”
  • مشروع تحرير عبر المعرفة: لم يكن هذا النور فكرياً فحسب، بل كان سياسياً واجتماعياً عميقاً. هدفه كان تحرير البشرية من الجهل الذي استغله السلاطين المستبدون والسلطات الدينية. كانت مفاهيم التسامح، والحرية (التعبير، الضمير)، والتقدم، والديمقراطية تُحمل كشعلات ضد ظلام التعصب، والرقابة، والقدرية، والخضوع الأعمى.
    • مثال: معركة فولتير ضد التعصب الديني والظلم، والتي عبّر عنها في صيحته الشهيرة: “أنا لا أتفق مع رأيك، لكني مستعد لأن أدفع حياتي ثمناً لحقك في التعبير عنه.”
  • نشر المعرفة كإشعاع: تجسد هذا المشروع في موسوعة “الإنسيكلوبيدي” (الموسوعة) التي أشرف عليها ديدرو ودالمبرت: جمع ونشر كل المعارف البشرية لـ”تنوير” أكبر عدد من الناس، دافعين بذلك جهلاً كان يبقي الشعوب في ظلام العبودية الفكرية.

٣. تشابك النورَين

هذان البعدان – الفردي والجماعي – متشابكان تشابكاً وثيقاً:

  • التنوير الفردي يغذي الحركة الجماعية: قامت حركة التنوير على قناعة بأن تنوير الوعي الفردي (عبر التعليم، القراءة، التأمل) هو الطريق الضروري لمجتمع أكثر عدالة وحرية. نور الفرد هو لبنة بناء صرح التنوير الجماعي.
  • المشروع الجماعي يُعزز التنوير الفردي: بالمطالبة بحرية الفكر، والترويج للتعليم، ومحاربة الرقابة، خلقت حركة التنوير الظروف الاجتماعية والسياسية التي تسمح لأفراد أكثر بالوصول إلى “نورهم” الداخلي، وتنمية حسهم النقدي واستقلاليتهم في الحكم.
  • استعارة موحِّدة: في كلا الحالتين، يمثل النور ترياقاً للسلبية الفكرية والخضوع. سواء في عقل شخص يسعى للحقيقة، أو في طموح عصر يريد إصلاح المجتمع، فهو يجسد الفعل الحيوي للفهم، والتساؤل، والتحرر.
    • مثال: رؤية ابن خلدون في مقدمته لأهمية العقل والنظر في إدراك الحقائق: “إنّ العقل نورٌ فطريٌّ يُميِّزُ به الإنسانُ بين الحقّ والباطل” تعكس هذا الربط بين النور الفطري (الفردي) وتمييز الحق (الجماعي).

٤. ما وراء الاستعارة: التعقيد والفروق الدقيقة

رغم قوة الاستعارة وروعتها، فإن ثنائية النور/الظلام تحمل إيحاءً بالتقسيم المفرط في التبسيط (واضح مقابل مظلم، خير مقابل شر) لا يعكس المناطق الرمادية، والمعارف الجزئية، والشكوك المثمرة. كما أن حركة التنوير نفسها، رغم إشعاعها الثوري، كان لها نقاط عمياء خاصة بها (بعض أشكال المركزية الأوروبية، وثقة مفرطة أحياناً في التقدم الخطي).

شعلة مستمرة

رغم هذه الفروق الدقيقة، تبقى استعارة النور أداة مفاهيمية ورموزية أساسية لفهم الوعي البشري وتطوره. إنها تلتقط الزخم الحيوي للفهم، والرغبة الكونية في الخروج من الجهل، والقوة التحويلية للمعرفة والعقل. سواء أضاءت في عقل فرد يسعى لمعرفة ذاته، أو في مشروع طموح لعصر يسعى لإنارة العالم، فإن “النور” يواصل تجسيد السمو الأسمى للبشرية: الرؤية الواضحة، والفهم، ومن ثم التحرر. يظل، حرفياً ومجازياً، المنارة التي ترشد تفكيرنا نحو آفاق أوضح من الوضوح والتحرر.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى