علوم اجتماعيةمراجعات

إمانويل تود: كتاب “هزيمة الغرب” عناصر قراءة سسيولوجية

بطاقة قراءة ومراجعة تحليلية لكتاب “هزيمة الغرب” لإيمانويل تود

منظور سوسيولوجي ونقدي


1. السياق التاريخي والأكاديمي للمؤلف

إيمانويل تود، عالم الأنثروبولوجيا والمؤرخ الفرنسي الذي يعيش في بريطانيا أكثر، اشتهر بتنبؤه بانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1976 في كتابه “السقوط الأخير”، والذي اعتمد فيه على تحليل ديموغرافي واجتماعي.

في كتابه الجديد “هزيمة الغرب” (صدر عام 2024)، يعيد تود استخدام منهجيته متعددة التخصصات (تاريخ، ديموغرافيا، اقتصاد، أنثروبولوجيا) لتحليل تراجع الحضارة الغربية أمام صعود روسيا والصين، مع التركيز على الأسباب البنيوية العميقة .


2. الأطروحة المركزية للكتاب

يرى تود أن الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) يواجه “انهيارًا وجوديًّا” ناتجًا عن ثلاثة عوامل رئيسية:

  1. العجز الصناعي والتعليمي: انكشاف الوهم الاقتصادي الأمريكي عبر تضخم الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الصناعة بسبب نقص الكوادر الهندسية وضعف النظام التعليمي منذ الستينيات .
  2. انهيار القيم البروتستانتية: التي شكلت أساس النهضة الغربية عبر أخلاقيات العمل والتعليم العالي، وحلول الليبرالية الجديدة محل القيم الجماعية، مما أدى إلى جشع وفردانية مفرطة .
  3. تفضيل العالم لروسيا: بسبب قوتها الناعمة المحافظة ونجاحها في تحمل الصدمات الاقتصادية، مقابل فقدان الغرب لمصداقيته الأخلاقية بسبب ازدواجية المعايير واستغلال دول العالم الثالث .

3. الأدلة السوسيولوجية والديموغرافية

  • مؤشر وفيات الرضع: يستخدم تود هذا المؤشر كمقياس لصلابة المجتمعات. يشير إلى تفوق روسيا (4.4 وفاة لكل 1000 مولود) على الولايات المتحدة (5.4) كدليل على استقرارها الاجتماعي، مقابل تراجع الغرب .
  • الإحصاءات الأخلاقية: انخفاض معدلات الجريمة والانتحار وإدمان الكحول في روسيا منذ عام 2000، ما يعكس تحسنًا في الاستقرار الداخلي .
  • الاقتصاد الحقيقي: نجاح روسيا في تحقيق الاكتفاء الذاتي الزراعي (80 مليون طن قمح عام 2022) وتصدرها سوق التكنولوجيا النووية، مقابل تراجع الصناعة الأمريكية (16.8% من الإنتاج العالمي عام 2019) .

4. التحليل الجيوسياسي للحرب الأوكرانية

يعتبر تود الحرب الأوكرانية “مختبرًا” لهزيمة الغرب، حيث فشلت العقوبات الغربية في إضعاف روسيا، بينما تكشف عن:

  • عجز الغرب العسكري: عدم قدرة الناتو على تزويد أوكرانيا بأسلحة كافية، مقابل تفوق روسيا الصناعي .
  • العمى الإستراتيجي: رفض الغرب فهم المنطق الروسي القائم على السيادة الوطنية والاستقرار الديموغرافي، مقابل تبني خطاب أيديولوجي منفصل عن الواقع .
  • الصراع الثقافي: حداثة الغرب “المجنونة” (كزواج المثليين) تُنظر إليها بازدراء من قبل دول ترى في روسيا نموذجًا محافظًا أكثر استقرارًا .

5. نقد النموذج الليبرالي الغربي

  • أزمة القيم: يربط تود بين تراجع الدين (خاصة البروتستانتية) وانهيار الأخلاق الجماعية، مما فتح الباب للنيوليبرالية والعدمية، التي تجسدت في انهيار الأسرة وانتشار الفردانية .
  • العولمة الفاشلة: هيمنة الشركات التكنولوجية الأمريكية (مثل GAFAM) على أوروبا، وتحولها إلى “مستعمرة” واشنطن، ما يعكس فقدان السيادة .
  • التناقض الأخلاقي: دعم الغرب لإسرائيل رغم انتهاكاتها، ورفضه الاعتراف بتحسن الأوضاع في روسيا، بالرغم من انتقادات ترامب لسياسات الديمقراطيين، ما يكشف عن ازدواجية تقوض مصداقية سياسات الغرب .

6. الجدل حول الكتاب

  • الاتهام بالانحياز: ينتقد البعض تود لما يعتقدون أنه تحيزه لروسيا، وما يصنفونه كتجاهل منه لانتقادات نظام بوتين، لكنه يرد بأن تحليله يعتمد على بيانات موضوعية وليس انحيازًا أيديولوجيًّا .
  • النقد الذاتي للغرب: يشيد البعض بالكتاب كـ”صرخة إنذار” للغرب لمراجعة سياساته، خاصة في ظل تصاعد السخط الشعبي (مثل احتجاجات جيل زد ضد حرب غزة) .
  • التنبؤات المثيرة: مقارنته بين سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار الغرب تثير تساؤلات حول إمكانية تكرار التاريخ، رغم اختلاف السياقات .

7. الخلاصة السوسيولوجية

يقدم تود رؤية تشاؤمية لكنها مدعومة ببيانات ديموغرافية واقتصادية، مفندًا أسطورة التفوق الغربي. كتابه ليس هجومًا على الغرب، بل محاولة لفهم تحولات النظام العالمي نحو تعدد الأقطاب، حيث تبرز قوى جديدة (روسيا، الصين) تعيد تعريف مفاهيم القوة والاستقرار.

اقتباس ملهم من الكتاب:

“الغرب لم يعد قادرًا على رؤية العالم إلا من خلال مرآة مشوهة، يعكس فيها صورته المتفككة بدلًا من واقع يتغير بسرعة” .


توصية للقراءة:

الكتاب ضروري لفهم التحولات الجيوسياسية المعاصرة، خاصةً لدارسي السوسيولوجيا والعلوم السياسية. رغم جدليته، فإنه يدفع القارئ إلى التساؤل: هل حقًّا نحن نشهد “سقوطًا نهائيًّا” للغرب، أم أن هذه دورة تاريخية جديدة؟ منذ أن أصدر أسوالد اشبنغلر كتابه “تدهور الحضارة الغربية” في بداية القرن العشرين، كانت هناك باستمرار مقاربات لمصير الغرب وحضارته.

بين الفلسفة، والتاريخ، والسسيولوجيا تتفاوت مناهج الدراسة بين التنظير والتحليل، ويبقى كل ذلك ضمن ممارسة النقد الذاتي الذي يتيح للعقل الغربي إمكانات المراجعة والتصحيح لمسارات تطوره.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى